زياد الرحباني أهلاً بك في دمشق.. طلتك ولا ضوء القمر

اشتقت إليك يازياد، وأنا أعرفك جيداً واحفظك مع ابويك عن ظهر قلب.. مدينة لكم كأساتذة ساندوني في استمرار البقاء والقتال في وجه الريح المجنونة والعيش مع نفسي بصفاء، فقد كنت دوماً هاربة من الزمن وغدره ومعاكسته، خبأت أحلامي وخفت موتها ولم أحدث بها أحداً حتى اليوم وقد بلغت من العمر عتيا ـ حتى كنت أقول:

لعل كلمة الأحلام سقطت سهواً في أغنية عبد الوهاب وحلت محلها الأوهام «أنا من ضيع في الأوهام عمره» ‏

أعرفك يازياد وقد جئت الى هذا العالم سيداً تنعمت بالموسيقا وكنت النوطة الأحب الى والديك.. وعندما كبرت قليلاً تمرست حواسك بالمعرفة فأبدعت عيناك بالرؤية وعقلك بالرؤيا، وسماعك بحسن الإصغاء، ويداك بالعزف، وذائقتك بروائع الألحان، أما حاسة الشم، والسادسة فكانت في أوج وضوحها كأنما خلقت لتمايز بين العطور، وكيف تستنبت الزهور في الصخور، وتقلع الشوك لتحيي الشعور، وتنفض الغبار عن المستور وتشير الى مواطن البهتان والزور، وتقرأ جيداً مابين السطور..

‏

أخذت دور المحقق في «المحطة» و«الشرطي» في «ميس الريم» وكلاهما له دور الموجه والناقد في حياة المجتمعات التي تتطلع الى المستقبل، وكان لابد من «سهرية» تعارف تلفت الانتباه الى أن «الابن سر أبيه» ومع التغيرات التي طرأت على الحياة العربية (والبيروتية) كان لابد من اسلوب جديد ومقاربة الفن للواقع وهبوطه من عالم المثال والصورة الى الأرض حيث الأشغال والأعمال التي تستدعي الثورة والنهوض بالشعب الذي تخلف عن الركب وانشغل بضوء القمر والحب وترك الساحة للساسة ورجال الأموال الذين «يبدعون» في سرقة تعب الشعب واستثمار انتاجه وصولاً الى إشعال الحرب الأهلية إذا طلبت الدول العلية. ‏

لقد أدرك زياد مبكراً: أن الفن قوة خلاقة تدفع بالتطور الاجتماعي وحتى البيولوجي في اتجاه التجدد فقام بالتوضيح «بالكتابة» والشرح «بالغناء» والتجربة «بالموسيقا» من أجل إزالة القيود المفروضة على رتابة الحياة وذلك من خلال استهجان هذه القيود والتهوين من شأنها عن طريق السخرية والضحك ومن ثم التأكيد على السلوك والفكر الحر الذي يعيد التوازن الى الحياة و يبعث فيها الروح.. ‏

عمل زياد بكل جرأة على تحديد المفاهيم التي تتعلق بالكرامة والشعب العنيد وهو الذي رأى أن نزل السرور على بداية المكان اللائق لبناء فن واقعي جديد، يناغش حياة الناس ويؤكدعلى أهمية المكان، وفي خطوة فنية لاحقة لأن التساؤل الحكيم «بالنسبة لبكره شو» وهو السؤال الذي يشير الى الحكمة ورؤى اليمامة التي عبر عنها «فيلم أمريكي طويل» لتتوالى سلسلة الايضاح والتجربة المسرحية الرائدة مع (شي فاشل) و«بخصوص الكرامة والشعب العنيد» ..وهل ينفع العناد المتوارث، أو الخطاب اللغوي السائد في مقاومة السيل الجارف.. هاهنا.. لابد من مسرحية جديدة«لولا فسحة الأمل» من أجل العمل على امكانية النهوض من السبات والبحث عن خشبة الخلاص ـ في المسرح وغيره ـ حتى لاتصبح الأمة وشعوبها في خبر كان ‏

رغم الشدائد والصعاب والهزائم لابد من القيامة والقوامة بأسلوب جديد، فلم يعد ضوء القمر ولا الزهور أو الحلوات على الشبابيك...ولا البكاء على الأطلال يؤدي الغرض المطلوب من الفن خاصة وأن الجراح تنغر بالألم، والسيل يغذي الموج القادم وينذر بإعلاء شأن الهمجية والغرائز الوحشية.. إذاً لابد من إعادة صياغة المفاهيم، التي يخلقها البشر ثم يصبحون عبيداً لها، وكما توجد الغرائز يوجد العقل، ومثل ذلك الحلم والخيال والواقع والأمل لذلك كان لابد من هز أوتار العقل والعواطف والعزف على المشاعر بطريقة سليمة تتيح للمجتمع الراكد ـ الذي يتسم بالنمطية والأولية ـ أن «يتلحلح» ويستيقظ ويتحلى بالمرونة والقدرة على التجديد، وهذا مافعله زياد الرحباني بعد أن سطع نجم «هز الأرداف والبطون وإثارة الغرائز التي صورتها «فيديو كليبات» الأغنية العربية المعاصرة.. ‏

لقد أخذ زياد دوره المبدع في الردع والمقاومة وإعادة التوازن الى الحياة العربية وتجربتها البيروتية ومازال يؤديه على أكمل وجه: مرة بالكتابة، ومرة بالحكي وأخرى بالموسيقا والألحان... لم يكل زياد أو يمل حتى من الساسة ولا السياسيين، أو المغنين والمؤدين فكان «نبض الجو» دائماً وفي قلب الحدث يعزز بين «المعلومات الأكيدة والمعلومات مش أكيده»... ويرى أن البيت هو المبدأ والحق الذي لابد منه«أمنلي بيت» ومثل حق البيت والمبيت يرى الحب والعشق، وإن كل شيء «تابع لشي، تابع شي» و«العقل زينة» و«نص الألف خمسمئة». ‏

بكل وضوح وصراحة وقف معلناً وملحناً «وحدن بيبقوا» ونحن نعرف من هم الباقون.. ويوم غنت السيدة فيروز من ألحان ابنها زياد «كيفك إنت» و«نطرونا» و«سلملي عليه» شعرت بأن هذه الأغاني مهداة إلي ومثلي مريدون لايعدون.. ‏

زياد الرحباني حكى «قصة بشعة كثير وحلوة كثير» وآمن أن «الله كبير» وعلى كل شيء قدير، وإن الشعب إذا أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر.. ‏

بعد أن تشاور زياد مع نفسه رأى أن الغناء والموسيقا لاتكفي لإفهام الشعب العنيد فأضاف الى فنه، عمل الصحافي وانغمس في الكتابة بكل مايملك من قدرة على التوصيف والتشبيه والتذكر والجرأة ـ في العديد من الصحف اللبنانية لعله ينفض الغبار العالق على كل شيء حولنا، بدءاً من عقولنا وعواطفنا ومشاعرنا وصولاً الى نفض الغبرة عن ماضينا وحاضرنا. ‏

زياد سر أبيه في الابداع والعطاء، والينبوع يتفجر ماؤه مهما تراكمت العقبات والصخور حتى أخال زياد أشبه بالنبع الفوار الذي انسكب على أرض عطشى، ولم تفلح أيادي الرقابة في لجمها حتى تطاير رذاذها على وجوه الجميع: محب وكاره، ضاحك وحزين، باق وفان، وسواء كان من «المعارضة أو الموالاة».. ‏

كما هي حال أعمال والديه وعمه منصور، كان الابن البار بخروجه إلى نوطة جديدة لاتقل ابداعاً، ولم يرض أن يكون القاعد على إرث الأبوين وهذا هو البر بعينه لو كانوا يعلمون ‏

أعرفك جيداً يازياد وقد كبرت وأولادي معك لم نتفق على رأي إلا فيما يتعلق بأعمالك التي أدخلت البهجة والحوار الى بيتي أيام كانت تشتد الأزمات والنزاع مع الأولاد وأبيهم... فيسارع ابني (ذو الفقار) قائلاً: الحياة أبسط بكثير مما ترين في تعقيداتها ويسمعني كلماتك والحانك «بصراحة ـ اسمع تفرح ـ جرب تحزن ـ بلا ولاشي وغيرها..» ‏

أما آدم ابني وصديقي: فيأتي في عز انشغالي بالمنزل ونفض الغبرة ليسمعني مقطعاً من كلامك عن نفض الغبرة فأقول: «شو جاب الغبرة التي يتحدث عنها زياد الى الغبرة التي انفضها فيقول: ولو ياأمي وأنت التي تعرفين المجاز، والتشبيه وتحبين البلاغة اللغوية».. ‏

وحدها «زينة» ابنتي كانت تعارض (بلا ولاشي) فتقول المي والفي لايكفي للحب اليوم ولابد من المجوهرات ... ‏

كانت أعمال زياد ومازالت تشكل بعداً هاماً في حياتي مع أولادي والمحيط ـ أنعم بها ـ كلمات ولحناً وموسيقا. ‏

كبرت الأجيال مع زياد فكان المنقذ من الحيرة والقلق ومواجهة الصعوبات أطلعنا على كتابة جديدة وايقاع جديد يتلاءم مع حركة الحياة المستجدة ونمط العيش في زمن أصبح فيه ركوب الجياد الصافنات، وأبو الزلف، والميجانا، والعتابا، والدلعونا تراثاً لابد من الإضافات الابداعية إليه، وكنا قبل حين عندما شعرنا في مرحلة سابقة بالخيبة، ونحن نشهد استثمار العدالة والحرية والاشتراكية على النحو الذي يريده الساسة ومثل ذلك ابتذال مفاهيم: الالتزام والشعب العنيد حتى أصبحت كلمات ممجوجة حتى ظهر زياد في ملعب الكتابة وأعاد للحرف العربي أنسه وبهجته ودوره فأدركنا أن «الفيلم الأمريكي طويل» ويطول، وإنه لم يكن مؤشر خير في الحياة العربية وإنما كارثية ـ كما نشهد الحال الجارية. ‏

من يوم ماقال زياد «أنا مش كافر» قرأت إشارة واضحة الى أننا كأمه مازلنا في الطريق الصعب، ومرحلة النضال لرد الاعتبار بعد الهزائم المتكررة ومؤدى ذلك: أنه كلما أصابتنا مصيبة نقول: الحمد لله، هيك ولاغيره «أفظع منه». ‏

لقد استفاد زياد الرحباني من كل المعطيات ومنها ـ على سبيل المثال ـ خاصية العدوى بالضحك فكان مسرحه يشي بحالة العدوى هذه ومشاركة الناس بعضهم بعضاً، فالانسان يضحك لمجرد سماعه تسجيلات صوت الضحك ـ ثم يتساءل بعد قليل عن سبب ضحك هؤلاء وهو واحد منهم ‏

زياد كان يضحك من نفسه ويسجل في أحاديثه المفارقات التي تبعث على السخرية والتساؤل فتنشل السامع والشاهد والقارئ من حالة ذهوله.. ‏

يقول في حديث صحفي: كنا (16) طالباً بينهم خمسة أولاد سفراء، يعلم الجميع أن في مقدورهم ألا يأتوا الى المدرسة، لكنهم يأتون كرماً منهم، كان بينهم واحد إذا غاب أحمل همه وأقلق عليه لأنه كان الوحيد الذي تجعله علاماته يأتي بعدي في الترتيب.. عندما تعلن نتائج المسابقات والامتحانات كنت أخشى أن يغيب فأصبح أنا الأخير في الصف. ‏

رأى زياد أنه في جوهر الفكاهة يكمن الحب، والمعرفة يمكن إيصالها، بطريق البهجة والسخرية بدل الحزن والأنين فهي أقل كلفة، وأسرع وأسهل وأبسط في الفهم والقبول، كما أنها تحمل طاقة خلاقة تتفوق على الحزن والألم الذي يجعل صاحبه أسيراً مقيداً بالماضي والحاضر، بدل التأمل والعمل من أجل المستقبل، فالتهكم والسخرية قوة: ‏

يقول في حديث آخر له: ...وهناك فتى آخر من عكار، هذا الولد سأل الأستاذ في المدرسة «التابعة لإحدى الإرساليات المسيحية» أنتم تعلموننا الأنجيل، لماذا لاتعرفوننا بالقرآن، لم تتكلموا عنه أكثر من دقيقة، مع أنكم خصصتم وقتاً طويلاً لشرح الإنجيل، معرفة القرآن يمكن أن تكون مفيدة أيضاً يقول زياد قمت وأثنيت عليه وقلت: ‏

إنه يطرح سؤالاً فلماذا لاتجيبون؟ ‏

لكنه بعد ذلك صار مع «القوات اللبنانية» ... ‏

كل شيء له حدود إلا الابداع، وزياد رصد المسافة التراجيدية بين التقدم والتخلف، وقف على الصراط المستقيم ليعلن أسباب قصورنا كأمة وأشار الى ضرورة ايجاد البديل والخروج مما نتخبط فيه عن طريق التساؤل والنقد الذي يتيح للانسان العربي أن يعرف حقه جيداً ويختار الحياة الأفضل عندما يمتلك زمام المبادرة. ‏

ومن أسرار فهم زياد الى فهم أسرار أبيه: كتب عاصي مرة وأخوه منصور قصيدة للاذاعة المصرية عنوانها «النهر العظيم» تتحدث عن النيل وعن طاحون على ضفافه تدور، فقال المراقب الإذاعي المصري: ولكن ليس على النيل طاحون، فارفعا هذه الجملة فأجابه عاصي: بل انتم ضعوا طاحوناً على النهر. ‏

إنها نذر من قصة الابداع والتراث والتجديد وسيرة فنية عربية مستمرة من الأب الى الابن.


عفراء ميهوب - تشرين